كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25)}.
قوله: {فاسمعون} العامَّةُ على كسر النون، وهي نونُ الوقايةِ حُذِفَتْ بعدها ياءُ الإِضافةِ مُجْتَزًَا عنها بكسرةِ النونِ، وهي اللغةُ العاليةُ.
وقرأ عصمة عن عاصمٍ بفتحِها، وليسَتْ هذه إلاَّ غَلَطًا على عاصم، إذ لا وجهَ. وقد وقع لابنِ عطيةَ وهمٌ فاحشٌ في ذلك فقال: وقرأ الجمهورُ {فاسمعونَ} بفتح النون، قال أبو حاتم: هذا خطأٌ، فلا يجوزُ لأنه أمْرٌ: فإمَّا حَذْفُ النون، وإمَّا كَسْرُها على جهةِ الياءِ يعني ياءَ المتكلم، وقد يكونُ قولُه الجمهور سَبْقَ قَلَمٍ منه أو من النُّسَّاخِ وكأنَّ الأصلَ: وقرأ غيرُ الجمهور فسقط لفظةُ غير. وقال ابن عطية: حُذِفَ من الكلام ما تواتَرَتِ الأخبارُ والرواياتُ به وهو أنهم قَتَلوه فقيل له عند مَوْتِه: ادْخُلِ الجنةَ.
{بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)}.
قوله: {بِمَا غَفَرَ لِي} يجوز في ما هذه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: المصدريةُ أي: يعلمون بغُفْرانِ ربي. والثاني: أنها بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ، أي: بالذي غَفَرَه لي ربي. واسْتُضعِفَ هذا: من حيثُ إنه يَبْقى معناه أنه تمنى أَنْ يعلمَ قومُه بذنوبِه المغفورةِ. وليس المعنى على ذلك، إنما المعنى على تَمَنِّي عِلْمِهم بغفرانِ رَبِّه ذنوبَه. والثالث: أنها استفهاميةٌ، وإليه ذهب الفراء. ورَدَّه الكسائيُّ: بأنه كان ينبغي حَذْفُ ألفِها لكونِها مجرورةً وهو رَدٌّ صحيحٌ. وقال الزمخشري: الأجودُ طَرْحُ الألفِ والمشهورُ مِنْ مذهبِ البصريين وجوبُ حَذْفِ ألفِها كقوله:
عَلامَ تقولُ الرُّمْحَ يُثْقِلُ عاتقي ** إذا أنا لم أَطْعَنْ إذا الخيلُ كَرَّتِ

إلاَّ في ضرورةٍ، كقولِ الآخر:
على ما قام يَشْتِمُني لَئيمٌ ** كخِنْزيرٍ تَمَرَّغَ في رَمادِ

وقُرِئ: {من المُكَرَّمين} بتشديدِ الراء.
{وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28)}.
قوله: {وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ} في ما هذه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنها نافيةٌ كالتي قبلَها فتكون الجملةُ الثانيةُ جاريةً مَجْرى التأكيد للأولى. والثاني: أنها مزيدةٌ. قال أبو البقاء: أي: وقد كنَّا مُنْزِلين. وهذا لا يجوزُ البتةَ لفسادِه لفظًا ومعنًى. الثالث: أنها اسمٌ معطوفٌ على {جند}. قال ابن عطية: أي: مِنْ جندٍ ومن الذي كنَّا مُنْزِلين. ورَدَّه الشيخُ: بأنَّ مِنْ مزيدةٌ. وهذا التقديرُ يُؤدِّي إلى زيادتِها في الموجَبِ جارَّةً لمعرفةً، ومذهبُ البصريين- غيرَ الأخفشِ- أن يكونَ الكلامُ غيرَ موجَبٍ، وأَنْ يكونَ المجرورُ نكرةً. قلت: فالذي يَنْبغي عند مَنْ يقولُ بذلك أَنْ يُقَدِّرَها بنكرةٍ أي: ومِنْ عذابٍ كنا مُنْزِليه. والجملةُ بعدها صفةٌ لها. وأمَّا قولُه: إنَّ هذا التقديرَ يؤدِّي إلى زيادتها في الموجَبِ فليس بصحيحٍ البتةَ. وتَعَجَّبْتُ كيف يُلْزِمُ ذلك؟
{إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29)}.
قوله: {إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً} العامَّةُ على النصبِ على أنَّ كان ناقصةٌ. واسمُها ضميرُ الأَخْذَةِ، لدلالةِ السياقِ عليها. و{صيحةً} خبرُها. وقرأ أبو جعفر وشيبةُ ومعاذٌ القارئُ برفعِها، على أنها التامةُ أي: وقع وحَدَثَ وكان ينبغي أَنْ لا تلْحق تاءُ التأنيث للفصلِ ب إلا بل الواجبُ في غير نُدورٍ واضطرارٍ حَذْفُ التاءِ نحو: ما قام إلاَّ هند وقد شَذَّ الحسنُ وجماعةٌ فقرءوا {لاَ ترى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ} كما سأبيِّنه في موضعه إن شاء الله وقال الشاعر:
وما بَقِيَتْ إلاَّ الضُّلوعُ الجراشِعُ

وقال آخرِ:
ما بَرِئَتْ مِنْ رِيْبَةٍ وذَمِّ ** في حَرْبِنا إلاَّ بناتُ العَمِّ

{يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30)}.
قوله: {ياحسرة} العامَّةُ على نصبِها. وفيه وجهان، أحدهما: أنها منصوبةٌ على المصدرِ، والمنادى محذوفٌ تقديره: يا هؤلاء تَحَسَّروا حسرةً. والثاني: أنها منونةٌ لأنها منادى منكورٌ فنُصِبت على أصلها كقوله:
أيا راكبًا إمَّا عَرَضْتَ فبَلِّغَنْ ** نداماي مِنْ نَجْرانَ أنْ لا تَلاقِيا

ومعنى النداءِ هنا على المجازِ، كأنه قيل: هذا أوانُكِ فاحْضُرِي. وقرأ قتادةُ وأُبَيٌّ في أحدِ وجهَيْه {يا حَسْرَةٌ} بالضم، جعلها مُقْبِلًا عليها، وأُبَيٌّ أيضًا وابن عباس وعلي بن الحسين {ياحسرة العباد} بالإِضافة. فيجوزُ أَنْ تكونَ الحَسْرةُ مصدرًا مضافًا لفاعلِه أي: يتحسَّرون على غيرهم لِما يَرَوْنَ مِنْ عذابهم، وأَنْ يكونَ مضافًا لمفعوله أي: يَتَحَسَّر عليهم غيرُهم. وقرأ أبو الزِّناد وابن هرمز. وابن جندب {يا حَسْرَهْ} بالهاءِ المبدلةِ مِنْ تاءِ التأنيث وَصْلًا، وكأنَّهم أَجْرَوْا الوصلَ مُجْرى الوقفِ وله نظائرُ مَرَّتْ. وقال صاحب اللوامح: وقفوا بالهاء مبالغةً في التحسُّر، لِما في الهاءِ من التَّأَهُّه بمعنى التأوُّه، ثم وصلوا على تلك الحال. وقرأ ابن عباس أيضًا {يا حَسْرَةَ} بفتح التاء من غير تنوين. ووجْهُها أنَّ الأصل: يا حَسْرتا فاجْتُزِئ بالفتحة عن الألف كما اجتُزِئ بالكسرةِ عن الياء. ومنه:
ولَسْتُ براجعٍ ما فاتَ مِنِّي ** بَلَهْفَ ولا بلَيْتَ ولا لو اني

أي: بلهفا بمعنى لَهْفي.
وقُرئ {يا حَسْرتا} بالألف كالتي في الزمر، وهي شاهدةٌ لقراءةِ ابنِ عباس، وتكون التاءُ لله تعالى، وذلك على سبيل المجاز دلالةً على فَرْطِ هذه الحَسْرةِ. وإلاَّ فاللَّهُ تعالى لا يُوْصَفُ بذلك.
قوله: {ما يَأْتِيْهم} هذه الجملةُ لا مَحَلَّ لها؛ لأنَّها مُفَسِّرةٌ لسبب الحسرةِ عليهم.
قوله: {إلاَّ كانوا} جملةٌ حاليةٌ مِنْ مفعولٍ {يَأْتيهم}.
{أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31)}.
قوله: {كَمْ أَهْلَكْنَا} كم هنا خبرِيةٌ فهي مفعولٌ ب {أَهْلكنا} تقديرُه: كثيرًا من القرونِ أهلَكْنا. وهي معلِّقَةٌ ل {يَرَوْا} ذهابًا بالخبريَّة مذهبَ الاستفهاميةِ. وقيل: بل {يَرَوْا} عِلْمية، و كم استفهاميةٌ كما سيأتي بيانُه.
و{أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ} فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه بدلٌ مِنْ كم قال ابن عطية: وكم هنا خبريةٌ، و{أنهم} بدلٌ منها، والرؤيةُ بَصَرية. قال الشيخ: وهذا لا يَصِحُّ؛ لأنها إذا كانَتْ خبريةً كانَتْ في موضعِ نصبٍ ب {أهلَكْنا}. ولا يَسُوغُ فيها إلاَّ ذلك. وإذا كانت كذلك امتنع أن يكون {أنَّهم} بدلًا منها؛ لأنَّ البدلَ على نيةِ تكرار العاملِ. ولو سُلِّطت أَهْلكنا على {أنهم} لم يَصِحّ؛ ألا ترى أنك لو قلتَ: أهلَكْنا انتفاءَ رجوعِهم، أو أَهلكنا كونَهم لا يَرجعون، لم يكن كلامًا. لكنَّ ابنَ عطية تَوَهَّمَ أنَّ {يَرَوْا} مفعولُه كم فتوَهَّم أنَّ قوله: {أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ} بدلٌ منه؛ لأنه يُسَوِّغُ أَنْ يُسَلَّط عليه فتقول: ألم يَرَوْا أنهم إليهم لا يَرْجعون. وهذا وأمثالُه دليلٌ على ضَعْفِه في عِلْم العربية. قلت: وهذا الإِنحاءُ تحاملٌ عليه؛ لأنه لقائلٍ أَنْ يقول: كم قد جعلها خبريةً، والخبريةُ يجوز أَنْ تكونَ معمولةً ل ما قبلها عند قومٍ، فيقولون: ملكتُ كم عبدٍ فلم يَلْزَمْ الصدرَ، فيجوزُ أَنْ يكونَ بنى هذا التوجيهَ على هذه اللغةِ وجعل كم منصوبةً ب {يَرَوْا} و{أنهم} بدلٌ منها، نَ التي أهلكناها وليس هو ضعيفًا في العربية حينئذٍ.
الثاني: أنَّ {أنَّهم} بدلٌ من الجملةِ قبلَه. قال الزجاج: هو بدلٌ من الجملة، والمعنى: ألم يَرَوْا أن القروأنهم لا يَرْجِعون؛ لأنَّ عَدَمَ الرجوعِ والهلاكَ بمعنى. قال الشيخ: وليس بشيءٍ؛ لأنه ليس بدلًا صناعيًا، وإنما فَسَّر المعنى ولم يَلْحَظ صناعةَ النحو. قلت: بل هو بدلٌ صناعي؛ لأنَّ الجملةَ في قوة المفرد؛ إذ هي سادَّةٌ مَسَدَّ مفعولِ {يَرَوْا} فإنها معلِّقَةٌ لها كما تقدَّم.
الثالث: قال الزمخشري: {ألم يَرَوْا} ألم يعلموا، وهو مُعَلَّق عن العمل في كم لأنَّ كم لا يعملُ فيها عاملٌ قبلها- كانَتْ للاستفهام أو للخبرِ- لأنَّ أصلَها الاستفهامُ، إلاَّ أنَّ معناها نافِذٌ في الجملةِ كما نفذ في قولك: ألم يَرَوْا إنَّ زيدًا لمنطلقٌ وإنْ لم يعملْ في لفظِه، وأنهم إليهم لا يَرْجِعون: بدلٌ مِنْ {كم أهلَكْنا} على المعنى لا على اللفظِ تقديرُه: ألم يَرَوْا كثرةَ إهلاكِنا القرونَ مِنْ قَبْلهم كونَهم غيرَ راجعين إليهم.
قال الشيخ: قولُه لأنَّ كم لا يعملُ فيها ما قبلَها كانت للاستفهام أو للخبرِ ليس على إطلاقِه؛ لأنَّ العاملَ إذا كان حرفَ جر أو اسمًا مضافًا جاز أَنْ يعملَ فيها نحو: على كم جِذْعٍ بيتُك؟ وابنُ كم رئيسٍ صحبتَ؟ وعلى كم فقير تصدَّقتُ أرجو الثواب؟ وابنُ كم شهيد في سبيل الله أحسنت إليه؟. وقوله: أو للخبر والخبرية فيها لغتان: الفصيحةُ كما ذكر لا يتقدَّمُها عاملٌ إلاّ ما ذَكَرْنا من الجارِّ، واللغةُ الأخرى حكاها الأخفش يقولون: ملكتُ كم غلامٍ أي: ملكتُ كثيرًا من الغِلْمان. فكما يجوزُ تقدُّم العاملِ على كثيرًا كذلك يجوزُ على كم لأنها بمعناها. وقوله: لأنها أصلها الاستفهامُ، والخبريةُ ليس أصلُها الاستفهامَ بل كلُّ واحدةٍ أصلٌ بنفسِها، ولكنهما لفظان مشتركان بين الاستفهام والخبر. وقوله: لأنَّ معناها نافدٌ في الجملة يعني معنى {يَرَوا} نافذٌ في الجملة؛ لأنَّه جعلَها مُعَلَّقة وشرحَ {يَرَوْا} ب يعلموا.
وقوله: كما نفذ في قولك: ألم يَرَوْا إنَّ زيدًا لمنطلقٌ يعني أنه لو كان معمولًا من حيث اللفظُ لامتنع دخولُ اللامِ ولَفُتِحَتْ إنَّ فإنَّ إنَّ التي في خبرها اللامُ من الأدوات المعلِّقة لأفعال القلوبِ. وقوله: {إنهم إليهم} إلى آخره كلامُه لا يَصِحُّ أن يكون بدلًا لا على اللفظِ ولا على المعنى. أمَّا على اللفظِ فإنه زعم أنَّ {يَرَوْا} معلَّقَةٌ فتكون كم استفهاميةً فهي معمولةٌ ل {أهلكنا} و{أهلكنا} لا يَتَسَلَّط على {أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ}. وقد تقدَّم لنا ذلك. وأمَّا على المعنى فلا يَصِحُّ أيضًا لأنه قال: تقديره: أي على المعنى ألم يَرَوْا كثرةَ إهلاكنا القرونَ مِنْ قَبْلهم كونَهم غيرَ راجعين إليهم، فكونُهم غيرَ راجعين ليس كثرةَ الإِهلاكِ، فلا يكون بدلَ بعضٍ من كل، ولا يكون بدل اشتمالٍ؛ لأنَّ بدلَ الاشتمال يَصِحُّ أن يضافَ إلى ما أُبْدِل منه، وكذلك بدلُ بعضٍ من كل. وهذا لا يَصِحُّ هنا. لا تقول: ألم يَرَوْا انتفاءَ رجوعِ كثرةِ إهلاكِنا القرونَ مِنْ قبلهم، وفي بدلِ الاشتمال نحو: أعْجَبَتْني الجاريةُ مَلاحتُها، وسُرِقَ زيدٌ ثوبُه يصحُّ: أعجبتني ملاحَةُ الجاريةِ، وسُرِق ثوبُ زيد.
الرابع: أَنْ يكونَ {أنهم} بدلًا مِنْ موضع {كم أهلَكْنا} والتقدير: ألم يَرَوْا أنهم إليهم. قاله أبو البقاء. ورَدَّه الشيخ: بأنَّ {كم أهلَكْنا} ليس بمعمولٍ ل {يَرَوْا}.
قلت: قد تقدَّم أنها معمولةٌ لها على معنى أنها مُعَلِّقَةٌ لها.
الخامس: وهو قولُ الفراء- أن يكون {يَرَوْا} عاملًا في الجملتين من غير إبدالٍ، ولم يُبَيِّنْ كيفيةَ العملِ. وقوله الجملتين تجوُّزٌ؛ لأنَّ {أنهم} ليس بجملةٍ لتأويلِه بالمفرد إلاَّ أنه مشتملٌ على مُسْندٍ ومسند إليه.
السادس: أنَّ {أنهم} معمولٌ لفعل محذوفٍ دَلَّ عليه السياقُ والمعنى، تقديره: قَضَيْنا وحَكَمْنا أنهم لا يَرْجعون. ويَدُلُّ على صحةِ هذا قراءةُ ابنِ عباس والحسن {إنهم} بكسر الهمزةِ على الاستئناف، والاستئنافُ قَطْعٌ لهذه الجملةِ مِمَّا قبلها فهو مُقَوٍّ لأَنْ تكونَ معمولةً لفعلٍ محذوفٍ يقتضي انقطاعَها عَمَّا قبلَها. والضميرُ في {أنهم} عائدٌ على معنى كم وفي {إليهم} عائدٌ على ما عاد عليه واو {يَرَوْا}. وقيل: بل الأولُ عائدٌ على ما عاد عليه واو {يَرَوْا}. والثاني عائدٌ على المُهْلَكين.
{وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32)}.
قوله: {وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ} قد تقدم في هود تشديدُ لما وتخفيفُها وما قيل في ذلك. وقال الفخر الرازي في مناسبة وقوعِ لما المشدَّدةِ موقعَ إلاَّ: إنَّ لما كأنها حرفا نفي، وهما لم وما، فتأكَّد النفيُ، و إلا كأنَّها حرفا نفي: إنْ ولا فاستعمل أحدُهما مكانَ الآخر. انتهى. وهذا يجوزُ أَنْ يكونَ أَخَذه من قول الفراءِ في إلا في الاستثناء: إنها مركبةٌ من إنْ ولا. إلاَّ أنَّ الفراءَ جَعَلَ إنْ مخففةً من الثقيلة، وجعلها نافيةٌ، وهو قولٌ ركيكٌ رَدَّه عليه النحويون. وقال الفراء أيضًا: إن لما هذه أصلُها: لَمِمَّا فخُفِّفَ بالحذفِ. وهذا كلُّه قد تقدَّم موضَّحًا. وقوله: {كلٌّ} مبتدأ و{جميعٌ} خبرُه. و{مُحْضَرون} خبرٌ ثانٍ لا يختلف ذلك سواءً شَدَّدْتَ لما أم خفَّفْتها. لا يُقال: إنَّ جميعًا تأكيد لا خبرٌ، لأنَّ جميعًا هنا فَعيل بمعنى مَفعول أي: مجموعون ف {كل} تدلُّ على الإِحاطةِ والشمول، و{جميع} تَدُلُّ على الاجتماع فمعناها حُمِل على لفظها في قوله: {جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ} [القمر: 44] وقَدَّمَ {جميع} في الموضعين لأجلِ الفواصلِ، و{لَدَيْنا} متعلِّقٌ ب {مُحْضَرون} فَمَنْ شَدَّدَ ف لما بمعنَى إلا و إنْ نافيةٌ كما تقدَّمَ، ومَنْ خَفَّفَ فإنْ مخففةٌ، واللامُ فارقةٌ و ما مزيدةٌ. هذا قولُ البصريين، والكوفيون يقولون: إنْ نافيةٌ، واللامُ بعنى إلا كما تقدَّم غيرَ مرةٍ.
{وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33)}.
قوله: {وَآيَةٌ} خبرٌ مقدمٌ و{لهم} صفتُها أو متعلِّقَةٌ ب {آية} لأنها بمعنى علامة. و{الأرضُ} مبتدأ. وتقدَّم تخفيف الميتة وتشديدُها في أول آل عمران. ومنع الشيخُ أَنْ تكونَ {لهم} صفةً ل {آية} ولم يُبَيِّن وجهَه ولا وَجَّهَ له. وأعرب أبو البقاء {آية} مبتدًا و{لهم} الخبرُ و{الأرضُ الميتةُ} مبتدأٌ وصفتُه، و{أَحْييناها} خبرُه. والجملةُ مفسِّرَةٌ ل {آية} وبهذا بدأ ثم قال: وقيل: فذكر الوجهَ الذي بدأْتُ به. وكذلك حكى مكي أعني أَنْ يكونَ {آية} ابتداءً، و{لهم} الخبر. وجَوَّز مكي أيضًا أن تكونَ {آية} مبتدًا و{الأرضُ} خبرُه. وهذا ينبغي أَنْ لا يجوزَ؛ لأنه لا تُعْزَلُ المعرفةُ من الابتداءِ بها، ويُبْتَدأ بالنكرة إلاَّ في مواضعَ للضرورةِ.
قوله: {أَحْيَيْناها} قد تقدَّم أنه يجوزُ أَنْ يكونَ خبرَ {الأرض} ويجوزُ أيضًا أَنْ يكونَ حالًا من {الأرض} إذا جَعَلْناها مبتدًا، و{آية} خبرٌ مقدمٌ. وجَوَّزَ الزمخشريُّ في {أَحْيَيْناها} وفي {نَسْلَخُ} أَنْ يكونا صفتين للأرض والليل، وإن كانا مُعَرَّفين بأل لأنه تعريفٌ بأل الجنسيةِ، فهما في قوةِ النكرة قال: كقوله:
ولقد أَمُرُّ على اللئيمِ يَسُبُّني ** لأنه لم يَقْصِدْ لئيمًا بعينه

وردَّه الشيخُ: بأنَّ فيه هَدْمًا للقواعد: مِنْ أنه لا تُنْعَتُ المعرفةُ بنكرةٍ. قال: وقد تبعه على ذلك ابنُ مالك. ثم خَرَّج الشيخُ الجملَ على الحال أي: الأرضُ مُحْياةً والليلُ مُنْسَلِخًا منه النهارُ، واللئيمُ شاتمًا لي. قلت: وقد اعتبر النحاةُ ذلك في مواضع، فاعتبروا معنى المعرَّفِ بأل الجنسيةِ دونَ لفظِه فوصفوه بالنكرة الصريحةِ نحو: بالرجلِ خيرٍ منك على أحد الأوجه، وقوله: {إِلاَّ الذين} [العصر: 3] بعد {إِنَّ الإنسان} [العصر: 2] وقوله: {أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ} [النور: 31] و أهلك الناسَ الدينارُ الحمرُ والدرهمُ البيض. كلُ هذا رُوعي فيه المعنى دونَ اللفظ، وإن اختلف نوعُ المراعاةِ. ويجوز أن يكون {أحييناها} استئنافًا بَيَّن به كونَها آية.
{وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34)}.
قوله: {وَفَجَّرْنَا} العامَّةُ على التشديد تكثيرًا لأنَّ فَجَّر مخففةً متعدٍّ. وقرأ جناح بن حبيش بالتخفيف. والمفعولُ محذوفٌ على كلتا القراءتين أي: ينبوعًا كما في آية سبحان.
{لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35)}.
قوله: {مِن ثَمَرِهِ} قيل: الضميرُ عائدٌ على النخيل؛ لأنه أقربُ مذكورٍ، وكان مِنْ حَقِّ الضميرِ أَنْ يُثَنَّى على هذا لتقدُّم شيئين: وهما الأعنابُ والنخيلُ، إلاَّ أنه اكتفى بذِكْرِ أحدِهما. وقيل: يعود على جنات، وعاد بلفظ المفرد ذَهابًا بالضميرِ مَذْهَبَ اسم الإِشارةَ وهو كقولُ رُؤْبة:
فيها خُطوطٌ من سَوادٍ وبَلَقْ ** كأنَّه في الجلدِ تَوْليعُ البَهَقْ

فقيل له. فقال: أَرَدْتُ: كأنَّ ذاك وَيْلَكَ. وقيل: عائد على الماءِ المدلول عليه ب عيون. وقيل: بل عاد عليه لأنه مقدَّرٌ أي: من العيون. ويجوزُ أَنْ يعودَ على العيون. ويُعتذر عن إفراده بما تَقَدَّم في عَوْده على جنات. ويجوزُ أَنْ يعودَ على الأعناب والنخيل معًا، ويُعتذر عنه بما تقدَّم أيضًا. وقال الزمخشري: وأصلُه: مِنْ ثمرنا، لقوله: {وفَجَّرْنا} و{جَعَلْنا} فنقل الكلامَ من التكلُّم إلى الغَيْبة على طريقة الالتفات، والمعنى: ليأكلوا مِمَّا خلقَه الَّلهُ مِن الثمر. قلت: فعلى هذا يكون الضميرُ عائدًا على الله تعالى، ولذلك فَسَّر معناه بما ذكر. وقد تقدَّم قراءاتٌ في هذه اللفظةِ في سورةِ الأنعام وما قيل فيها بحمد الله تعالى.